الحلم والرفق في حياة الحبيب صلى الله عليه وسلم
ماأسمى صفةالحلم وأحبها إلى القلوب !
وكم هي عظيمة هذه الصفة حتى جعلهاالله عز وجل
من علامات النبوة وبراهينها وما أروع الموقف
الذي يتجلى فيه حلم النبوة فيهتدي به العقلاء
إلى دين الله هداية قناعة ويقين ومحبة :
هذاحبر من أحبار يهود المدينة المنورة
رأى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه
سماع تفكر وراقب أحواله مراقبة تبصر وراجع
في التوراة صفات الأنبياء مراجعة تحقق وتدبر
ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهويعد
في نفسه لأمر خطير وكرر المجيء حتى رأى الفرصة
السانحة لما يريد رأى عند النبي صلى الله عليه
وسلم رجلاً يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن
جماعته قد أسلموا وجاءت عليهم سنة ضيقة مجدبة
وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم مؤونة يعينهم
لكي لا يظنوا أن ما أصابهم من ضيق كان سببه
دخولهم في الإسلام فيرتدوا عنه ولم يكن عند
النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعطيه حينئذ سارع
الحبر اليهودي زيد بن سعنة لينفذ ما أعده في
نفسه فقال لسيدنامحمدصلى الله عليه وسلم :
أنا أقرضك ما تعينهم به ولكن اجعل بيني وبينك
أجلاً توفيني عنده هذا الدين قال النبي صلى الله
عليه وسلم: نعم وضرب لليهودي أجلاً معيناً ومرت
الأيام ودنى ذلك الأجل فجاء إلى النبي صلى الله
عليه وسلم قبل اليوم المعين بمدة ليطالبه
بالدين فقال النبي صلى الله عليه وسلم له:
إن الأجل لم يحن بعد فاقترب الرجل من النبي
صلى الله عليه وسلم بغلظةوامسك بردائه من عند
عنقه وجذبه بعنف وشراسة قائلاً :
يا محمدأعطني حقي فإنكم معشر بني هاشم قوم
تماطلون في وفاء الدين وأثّر الثوب في عنق رسول
الله صلى الله عليه وسلم تأثيراً شديداً فإذا بسيدنا
عمر رضي الله عنه تأخذبنفسه حمية الحق فيقول
يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنق هذا الكافر
فقدآذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
لقدأخذت الحمية من نفس عمر رضي الله عنه ولكنها
لم تأخذ من نفس صاحب الحق الذي أوذي بغير حق
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولادعاه ذلك إلى
البطش بالمعتدي كما هي عادة الزعماء والأمراء
بل صبر واتأد وترفق بالمعتدي غايةالرفق
ثم قال قولة التكرم والتسامي :
يا عمر كنت أنا وهو أحوج إلى غير هذامنك كنت
أحوج إلى أن تأني بحسن الأداء وكان أحوج إلى أن
تأمره بحسن الطلب اذهب فاقضه حقه وزده عليه
لقاء ما خوفته .
سمع الحبر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى
البشر في وجهه وتجلى له الخلق العظيم الذي
جعله الله من دلائل النبوة فغسل ذلك قلبه وأزاح
عنه غشاوات الباطل فهفى قلبه إلى دين الحق
والإيمان بالله ورسوله ومضى مع عمرليأخذ حقه فلما
رأى الزيادة قال: ما هذه الزيادة يا عمر؟
قال : لقد أمرني بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما سمعت لقاء ما روّعتك ولكن أخبرني ماالذي
دعاك إلى مافعلت؟
قال يا عمر : إنه لم يكن شيء أعرفه من علامات
النبوة إلا رأيته في وجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين نظرت إليه إلا شيئين لم أكن رأيتهمابعد
( يسبق حلمُه غضبَه ولا تزيده
شدة الجهل عليه إلا حلماً)
فقدرأيت الآن وعلمت فاشهد يا عمر أني قد رضيت
بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه
وسلم نبياً ورسولاً وأشهدك أن شطر مالي صدقةعلى
أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورجع عمر وزيد إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مثل زيد بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
أشهدألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله
وهكذاانضم الحبر اليهودي زيد بن سعنة إلى
مكتملي الإيمان بين الأصحاب الكرام الذين
اختارهم الله على العالمين ليحملوا مع نبيه راية
الإيمان فتحقق فيه قول الله تعالى لكليمه موسى
عليه السلام :
ورحمتي وسعت كل شيءفسأكتبها للذين يتقون
و يؤتون الزكاة والذين هم بآياتنايؤمنون .
الى قوله تعالى أولئك هم المفلحون _ الأعراف _.
وهذاالحلم الذي اهتدى به الحبر الخبير بأخلاق
الأنبياء كان سبباً في هداية أبي سفيان الخصم
العنيدالمنافس لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
جيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِن حوله
عشرة آلاف سيف يستأصل شأفه كل معاند لو أشار
لهابأصبعه لكنه لم يزد على أن قال لأبي سفيان
بكل رفق وحلم :
أباسفيان أما آن لك أن تشهد أنه لا إله إلا الله
فاهتز قلب أبي سفيان ولان لما سمع ورأى من
الحلم وقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأوصلك
وأكرمك : والله لقد علمت أنه لو كان مع الله آلهة
أخرى لنصرتني عليك . ثم قال له النبي صلى الله
عليه وسلم : أبا سفيان :
أماآن لك أن تشهد أني رسول الله ؟
قال : بأبي أنت وأمي ماأحلمك وأوصلك وأكرمك :
أمّا هذه ففي النفس منها شيء ، لقد جرّأه الحلم
الواسع على أن يبوح بوساوس المنافسة الحاسدة
فنبهه العباس صديقه القديم وأنه ينبغي له أن
يغتنم الفرصة لتكفير سيئات الماضي وقال له :
أسلم قبل أن يسقط رأسك عن كاهلك
قال : نعم أشهد ألاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله
وكذلك كان حال صفوان بن أمية صاحب الثارات
القديمة الذي قتل أبوه وعمه على يدي جند رسول
الله صلى الله عليه وسلم لقد هزه حلم النبوة ولكنه
لم يستجب على الفور إنما أعدته رؤية هذا الحلم
الكريم ليدرك الفرق الهائل بين كرم الأخلاق عند
البشر وكرم الأخلاق النبوية لقد وقف يوم فتح مكة
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه
الصلاةوالسلام بكل رفق :
الا تسلم يا صفوان؟ قال : أمهلني شهرين قال
النبي صلى الله عليه وسلم : بل أربعة فادرك صفوان
أنه ليس أمام زعيم يستغل ضعف خصومه وهزيمتهم
في الحرب بل هو أمام داع على الحق بالحلم
والرفق والإكرام
وحين سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة حنين
قال لصفوان : أنه بلغني أن عندك أدراعاً وسيوفاً
فأعنا على حربنا قال : أغصباً يامحمد !
قال: لابل عارية مضمونة وحين انتهت المعركة
بهزيمة الأعداء من قبيلة هوازن اعطاه النبي صلى
الله عليه وسلممن غنائمها وادياً من الغنم فأدرك
حينئذعظمةأخلاق النبوة وسموّها العظيم على كل
أخلاق البش فزالت عن لبه غواشي الباطل فقال على
الفور دون أن ينتظرتمام الشهور الأربعة
أشهد ألا إله إلا الله وانك رسول الله والله ماجادت بهذا
العطاء إلانفس نبي
لقدغسلت أخلاق النبوةقلبه وأعادت إليه فطرته
فعاد للحق مستسلماً لكن ماذاينفع الحلم الواسع
والرفق البالغ والإحسان الدافق مع النفوس
اللئيمة التي أغلقت بالحسدوالحقد كل نوافذ
النور فغدت في ظلمات بعضها فوق بعض
هؤلاء يكونون كما وصفهم الشاعر:
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ولكن سمو أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم يتابع
الإحسان إلى هؤلاء لعل القلوب التي حولهم تلين
وتستضيء بنور النبوة فتنفر من اولئك اللئام
وتهتدي إلى الله كماكان الحال مع عبد الله بن أبي بن
سلول رأى زعيم المنافقين في المدينة المنورة
رأى في قدوم النبي صلى الله عليه وسلم زوال زعامة
تشمل كل يثرب زعامة انتظرهاطويلاً وسعى إليها
كثيراً حتى رآها في متناول يده حينئذ تكبر
وأعرض جهاراًثم أسر ذلك في نفسه حين غلب جانب
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتوقف يوماً عن
تدبير الفتن له ومحاولات الإيقاع بين المهاجرين
والأنصار وآذى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً
كلما سمحت له فرصة حتى تنزلت آيات القرآن تشير
إليه بالبنان وتبرز نفاقه للعيان فيتحدث الناس
أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله بل لقد
استأذنه عمر بن الخطاب في ضرب عنقه حين استعلن
منه النفاق فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتنامت الأنباء إلى سمع ابنه المؤمن القوي
الإيمان عبد الله بن عبدالله فأقبل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : يا رسول الله : بلغني أنك تريد
قتل أبي فإن كنت تريد ذلك فأنا أقتله إني أخشى
إن قتله غيري أن تطلب نفسي بثأره فأقتل مؤمناً
بكافر فأدخل النار فأجابه سيد أهل الحلم صلى الله
عليه وسلم: لاياعبد الله بل نصبر عليه ونترفق به
ونحسن صحبته فاطمأن تنفس عبد الله وزاده حلم
النبوة إيماناً . وتوالت الأيام وتوالت إساءات
ابن سلول وتوالى عليه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم الحلم والرفق والإحسان ورأى قومه ذلك كله
فأبغضه أكثرهم وباعدوه ومع ذلك بقيت حوله
جماعة كبيرة من المنافقين ثم انفضوا عنه لما
رأوا من إحسان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه
يوم موته لقد استجاب لطلب ابنه عبد الله بن عبد الله
فصلى عليه وكفنه بقميصه وأنزله حفرته بيده
واستغفر له أكثر من سبعين مرة لإن ربه قال له
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم
فقال: سأزيد على سبعين ولامه بعض أصحابه صلى الله
عليه وسلم فأعرض عنهم وعامل ابن سلول بالعفو
والحلم والإحسان فغسل ذلك قلوبهم وأقبلوا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون :
نشهد الا إله إلا الله ونشهد أنك رسول الله
أشرقت قلوبهم بنورالإيمان وساروا وراء صاحب
الخلق العظيم الذي يسبق حلمه غضبه ولا تزيده
شدةالجهل عليه إلا حلماً وأدركوا معنى قول الله
تعالى يخاطب نبيه :
"وإنك لعلى خلق عظيم".
******2
من صور العفو والحلم في سيرته
صلى الله عليه وسلم :-
1- فعندما خرج صلى الله عليه وسلم إلى قبيلة ثقيف
طلباً للحمايةمما ناله من أذى قومه ، لم يجد
عندهم من الإجابة ما تأمل ،بل قابله ساداتها
بقبيح القول والأذى ، وقابله الأطفال برمي
الحجارة عليه،فأصاب النبي صلى الله عليه وسلم
من الهم والحزن ومن التعب الشديد ما جعله يسقط
على وجهه الشريف، ولم يفق إلا و جبريل رضي الله
عنه قائماًعنده يخبره بأن الله بعث ملك الجبال
برسالة يقول فيها:
إن شئت يا محمد أن أطبق عليهم الأخشبين،
فأتى الجواب منه عليه السلام بالعفو عنهم قائلاً:
( أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده
لا يشرك به شيئا )
رواه البخاري ، فأي شفقة وأي عفو وصفح وحلم من
إنسان يُضاهي هذا الحلم إلا حلمه عليه السلام.
2- ولما كُسِرت رُباعيته صلى الله عليه وسلم وشُجَ
وجهه يوم أُحد،شَقَ ذلك على أصحابه، وقالوا:
يا رسول الله ادعُ على المشركين، فأجاب أصحابه
قائلاً لهم:
( إني لم أُبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة )
رواه مسلم .
3- وأقبل ذات مرة الطفيل بن عمرو الدوسي على
النبي صلى الله عليه وسلم، طالباً منه الدعاء على
أهل دوس لعصيانهم ، فما كان من رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا أن رفع يديه مستقبل القبلة قائلا:
( اللهم اهد دوساً ).
رواه البخاري .
4- ومن حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم مع الأعراب،
حينما أقبل عليه ذلك الأعرابي الجلف، فشد رداء
النبي صلى الله عليه وسلم بقوة، حتى أثر ذلك على
عنقه عليه السلام، فصاح الأعرابي قائلا للنبي:
مُر لي من مال الله الذي عندك ، فقابله النبي صلى
الله عليه وسلم وهو يضحك له، والصحابة من حوله في
غضب شديد من هول هذا الأمر، وفي دهشة من ضحك
النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه وفي نهاية الأمر،
يأمر النبي صحابته بإعطاء هذا الأعرابي شيئاً من
بيت مال المسلمين.
5- وأعظم من ذلك موقفه مع أهل مكة، بعدما أُخرج
منهاوهي أحب البلاد إليه، وجاء النصر من الله
تعالى، وأعزه سبحانه بفتحها، قام فيهم قائلاً:
( ما تقولون أني فاعل بكم ؟ ) قالوا : خيراً ،
أخ كريم ،وابن أخ كريم ،
فقال: ( أقول كما قال أخي يوسف ) :
{ لا تثريب عليكم اليوم يغفراللَّه لكم وهو أرحم
الراحمين } (يوسف:92)،
( اذهبوا فأنتم الطلقاء )
رواه البيهقي .
6- ولمحة أخرى من حلمه في حياته عليه السلام،
أنه لم يُعهد عليه أنه ضرب خادماً، أو امرأة،
ولم ينتقم من أحد ظلمه في المال أوالبدن ، بل
كان يعفو ويصفح بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم
تقول عائشة رضي الله عنها:
( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده
ولا امرأةولاخادما إلا أن يجاهد في سبيل الله
وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه
إلاأن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل )
رواه مسلم.
******3
رفق الرسول صلي الله عليه وسلم
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول لله -
صلى الله عليه وسلم -:
« إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ».
رواه البخاري ومسلم.
الرفق: هو لين الجانب وهو ضد العنف
والشدةوالغلظة وهو سبب كل خير، ودعامة كل
فضيلة، وزينة كل عمل، وصلاح كل أمر،فإنه لا يكون
في شيءإلا زانه ولا نزع من شيءإلا شانه كما أخبر
بذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فهو مطلوب
في كل أمر من الأمور الدنيويةوالأخروية حتى يأخذ
ذلك الأمر جانب القصد والاعتدال، وقد أخبرالرسول
- صلى الله عليه وسلم - أن الله يثيب على الرفق أعظم
ما يثيب على غيره،ففي صحيح مسلم عن عائشة -
رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -:
« إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق
ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه »،
وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الخير كل
الخير في الرفق فقال كمافي صحيح مسلم وأبي
داود عن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه -:
« من يحرم الرفق يحرم الخير كله »
لذلك كان الرفق من العوامل الأساسية في
انتشارالإسلام ودخول الناس فيه أفواجاً،
وذلك لما يتميز به من اليسر والسهولة في نظمه
وتشريعه ودعوته وجميع ما جاء به
فإن الله - تعالى -يقول:
[وَمَاجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]
الحج: 78
وقال: [يُرِيدُاللهُ بِكُمُ اليُسْرَوَلَايُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ]
البقرة: 185
وقال: [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّاوُسْعَهَا] البقرة: 286،
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
« بعثت بالحنيفية السمحة »
[أحمد: (5/266) (22345)]. وكذلك لما يتميز به
الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء بهذا
الدين من صفات الرحمةوالرأفةوالحلم والرفق
وسائر الصفات الحميدة حتى قال الله - تعالى -فيه:
[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] القلم: 4
وقال: [لَقَدْجَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ].
التوبة: 128
وقال: [فَبِمَارَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] آل عمران: 159
ثم قال لنا - سبحانه وتعالى -:
[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌلِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا]
الأحزاب: 21.
ومن الأمثلة على رفقه - عليه الصلاة والسلام -
نذكر منها ما يلي:
1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
« بال أعرابي في المسجدفقام الناس إليه ليقعوا
فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء
أو ذنوباً من ماء
فإنمابعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين »
رواه البخاري.
2) عن أنس - رضي الله عنه - قال: « كنت أمشي مع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني
غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه
جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وقد أثر بها حاشية الرداء من
شدة جذبته ثم قال: يامحمد! مر لي من مال الله
الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء »
رواه البخاري ومسلم.
3) روى مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي
- رضي الله عنه -
قال: « بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إذعطس رجل من القوم،فقلت:
يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل
أمي اه ما شأنكم تنظرون إلى فجعلوا يضربون
بأيدهم على أفخاذهم، فلمارأيتهم يصمتونني
سكت،فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده
أحسن تعليماً منه، فوالله ما قهرني ولاضربني ولا
شتمني،قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من
كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير
وقراءة القرآن..».
وكذلك لما يتميز به الصحابة رضوان الله عليهم
الذين بلغوا هذاالدين ونشروه من صفات الرفق
والحلم وغير ذلك من الصفات الحميدة وأمثلتهم
التي ضربوا للناس أروعها وأعظمهاكثيرة جداً،
فقد كانواالواسطة بين الرسول - صلى الله عليه
وسلم - وبين الناس في تبليغ هذاالدين وتوضيحه
ولو كانواعلى خلاف تلك الصفات العظيمة لما قبل
منهم الدين أحد، والرفق يكون بالنفس وبالغير
وبالحيوان وفي القول والفعل.
أولاً: فأما الرفق بالنفس:
فهو أن لا تكلفها من العبادة ما لا تطيق ولاتحرم
عليها من المباح ما ترغب، فإن في إرغامها على
ذلك تعذيب لها وغلظةعليها، وقد نهى الله - سبحانه
وتعالى - عن التكلف ونهى الرسول - صلى الله عليه
وسلم - عن التنطع والتشدد، وقد قال الرسول -
صلى الله عليه وسلم - للنفر الذين جاءوا يستفسرون
عن عبادته فتقالوها، « فقال أحدهم بأنه يقوم
ولا ينام، وقال آخر بأنه يصوم ولا يفطر،
وقال آخربأنه لا يتزوج، وقال آخربأنه
لا يأكل اللحم، فقال لهم الرسول
- صلى الله عليه وسلم -:
أما أنا فأقوم وأنام،وأصوم وأفطر،
وآكل اللحم،وأتزوج النساء،
فمن رغب عن سنتي فليس مني.. »
[البخاري: (5/1949) (4776)،
مسلم: (2/1020) (1401)]
ودخل على عبد الله بن عمرو فقال:
« ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟
فقال: بلى، قال: لا تفعل، قم ونم،
وصم وأفطر،فإن لجسدك عليك حقاً،
وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً،
وإن لزوجك عليك حقاً... »
[البخاري: (2/697) (1874)،
مسلم: (2/812) (1159)]
وفي قصةسلمان وأبي الدرداء - رضي الله عنهما -:
« إن لربك عليك حقاً، وإن لجسمك عليك حقاً،
ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه،
فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم
- بذلك فقال: صدق سلمان »
[البخاري: (2/694) (1867)،
الترمذي: (4/608) (2413)].
ثانياً: أما الرفق بالغير
فإما أن يكون قريباً أو لا:
فأما القريب فهم الأبناء والآباء والزوجات،
وبقية ذوي القربى:
1) فأما الرفق بالأبناء: فهو رحمتهم
والشفقةعليهم وتعليمهم القرآن والأدب وممازحتهم
وملاعبتهم ومضاحكتهم في غيرمهزأة ولا منقصة، فإن
ذلك هو هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع
أبنائه وأحفاده وأبناء أصحابه، فقد كان يقبل
ابني بنته فاطمة الحسن والحسين حتى أنكر عليه
الأقرع بن حابس وقال له: إن لي عشرة من الولد
ماقبلت منهم أحداً، فقال له الرسول - صلى الله
عليه وسلم -:
« من لا يرحم لايرحم »
[البخاري: (5/2235) (5651)،
مسلم: (4/1808) (2318)]،
وكان - عليه الصلاة والسلام - يحمل أمامةبنت أبي
العاص وهي بنت بنته زينب يحملهاعلى ظهره وهو
يصلي فإذا سجدوضعها وإذا قام أخذها،
وكان يفرج بين رجليه وهو راكع للحسن
أو الحسين، وكان مرةيخطب فجاء الحسن والحسين
يمشيان ويعثران بين الصفوف فقطع - عليه الصلاة
والسلام - خطبته ونزل فحملهما
ثم عاد إلى خطبته، وقال:
« صدق الله إن الله - تعالى -يقول:
[إِنَّمَاأَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ.. ]
التغابن: 15.
وكان لأنس بن مالك أخ صغير يلاعبه الرسول
- صلى الله عليه وسلم - ويقول له:
« يا أباعمير ما فعل النغير »
[البخاري: (5/2291) (5850)،
مسلم: (3/1692) (2150)]
وقال - عليه الصلاةوالسلام -:
« ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا »
[الترمذي: (4/321) (1919)،
أحمد: (2/207) (6937)]
ولا ينبغي للأب أن يهزأ أبناءه إذا أخطئواأمام
الآخرين؛ فإن ذلك يولد فيهم الحقد والعي
والعقوق بل يأخذهم على انفراد ويبين لهم الخطأ
الذي وقعوا فيه بأسلوب ليس في غير شدة
ولا عنف،فإذا ما تمادى الابن في الخطأ فلا بأس أن
يضربه في غير وجهه ضرباً غيرمبرح في خلاء من
الناس، ولا يقبح ولا يسب ولا يلعن فإن ذلك لا
يجوز،وأيضاً فإن الابن ينشأ على خلق أبيه غالباً
فتكون العاقبة والنتيجةوخيمةحيث ينشأ هذاالابن
بذيئاً فاحشاً عاقاً سيئ الخلق.
2) وأما الرفق بالآباء: فهو ملاطفتهم والإحسان
إليهم وعدم عصيانهم في المعروف خصوصاً في حالة
الكبر قال - سبحانه -:
[وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواإِلَّاإِيَّاهُ
وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاإِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ
الكِبَرَأَحَدُهُمَا أَوْكِلَاهُمَا فَلَاتَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ
وَلَا تَنْهَرْهُمَاوَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا]
الإسراء: 23.
3) وأما الرفق بالزوجات:
فهو معاشرتهم بالإحسان إذ أنهن أسيرات عند
الأزواج ومعاملتهن بالمعروف وعدم تكليفهن فوق
طاقتهن،وأن يصبر عليهاإن هي أخطأت في نفسها
أو عليه فإنهن ناقصات عقل ودين،وليس ثم امرأة
كاملةأبداً، ويكفي أن تكون ذات دين وخلق، وأن
يشاركها في مهنة البيت في حال فراغه فإن ذلك
كان حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أهله
يكون في مهنتهم فإذا ما نودي للصلاة فزع إليها
كأنه لا يعرفهم.
ويجب على الزوج إذا غضب أن يكون رفيقاً في
معاقبته لها فلا يسب ولا يقبح ولا يلعن ولا يضرب،
فإن من يفعل ذلك ليس خيراً كما قال الرسول -
صلى الله عليه وسلم - فيمن يضرب زوجته:
« ليس أولئك بخياركم »
[أبوداود: (1/652) (2146)]،
ولا بأس أن يسبهاسباًمشروعاً مثل:
حلقى، وعقرى،ولكع، وياعاصية، ونحو ذلك،
فإن حسن الخلق والعشرةالحسنة مع الزوجة من
كمال الإيمان فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
« إن من أكمل المؤمنين إيماناً
أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله »
[الترمذي: (5/9) (2612)،
الحاكم: (1/119) (173)].
وروى ابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
« خيركم خيركم لأهله وأناخيركم لأهلي ».
4) وأما الرفق بباقي الأقرباء
كالأعمام والعمات
وذوي الأرحام وأبنائهم:
فالأصل فيه قوله-تعالى -:
[وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَاتُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًاوَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي
القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ
وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَامَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا]
النساء: 36.
ولأن لهؤلاء حقين: حق القرابة وحق الإسلام؛
ولأن الرفق مطلوب في كل شيءومع كل الناس
إلا من استثني منهم فكان مع الأقربين
أعظم تأكيداً ووجوباً.
5) وأما الرفق بغير القريب وهم بقية الناس:
فالأصل فيه أيضاًقوله - تعالى -:
[وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوابِهِ شَيْئًاوَبِالوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًاوَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ
ذِي القُرْبَى وَالجَارِالجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا].
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
« إن الله رفيق يحب الرفق في الأمركله »
[البخاري: (5/2242) (5678)،
مسلم: (4/1706) (2165)]،
وقوله - عليه الصلاةوالسلام
- كما في سنن الترمذي:
« الراحمون - يرحمهم الله تعالى -،
ارحموامن في الأرض يرحمكم من في السماء »
[أبوداود: (2/703) (4941)].
والرفق بالناس معناه البشاشة في وجوههم وحسن
معاملتهم والصفح عن مسيئهم والحلم عن جاهلهم
والصبر على أذاهم وعند تعليمهم وخفض الجناح
لهم،وعدم الاعتداءعند الاقتصاص منهم،
وحسن الاقتصاص والقضاء والاقتضاء منهم
إلى غيرذلك قال - تعالى -:
[وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ]
الشعراء: 215
وقال: [وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ]
آل عمران: 134.
والأمثلةمن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
كثيرةجداً قد ذكرنا بعضاً منها أنفاً.
ثالثاً: الرفق بالحيوان:
كما سبق:
إن الرفق أحد العوامل الأساسية التي
دعا إليها الإسلام ونادى بها بل وأمرأتباعه أن
يلتزموا بها وذلك أكثر من أربعة عشر قرناً،
ومن الرفق الذي نادى به الإسلام أيضاً الرفق
بالحيوان ولم يقتصر على ذلك بل رتب عليه الأجر
والثواب والمغفرة، ورتب على ضده العذاب
والنكال فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
« بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش
فوجدبئراًفنزل فيها فشرب ثم خرج،وإذا كلب يلهث
يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقدبلغ هذا
الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل
البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى
الكلب فشكر الله - تعالى -له فغفر له،
قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً
قال: في كل كبد رطبة أجر »
[البخاري: (2/833) (2234)،
مسلم: (4/1761) (2244)].
وفي رواية:
« أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف
ببئر قدأدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها
فغفر لها به »
[مسلم: (4/1761) (2245)]،
وفي المقابل عن ابن عمر - رضي الله عنهما -
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
« دخلت امرأةالنار في هرةربطتها فلم تطعمها
ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض »
[البخاري: (2/834) (2236)،
مسلم: (4/2021) (2242)]،
فأين نجد هذا في جمعيات الرفق بالحيوان
المنتشرة في العالم؟
والرفق لا يكون إلا بحلم، والحلم كما يقال
سيدالأخلاق، بل به يسود المرء ويشرف في قومه،
وبضده يسقط من أعين الناس ويصغر في نظرهم
فلايزال محتقراً مهاناً ذليلاً لاقيمة له ولا وزن.
وقد قيل للأحنف:
ممن تعلمت الحلم؟
قال:
من قيس بن عاصم المنقري كان يوماً جالساً
في قومه فجاء أبناؤه بأخ لهم مقتول قدقتله ابن
عم له قدأوثقوه، فوالله ما حل حبوته وما زاد أن
التفت إلى ابن أخيه فقال له:
بئسما فعلت، ثم قال لأبنائه:
اذهبوافواروا أخاكم وسوقوالأمه مائة من الإبل
دية ابنها فإنها غريبة بيننا،
وقال معاويةلعرابة بن أوس:
بما سدت قومك ياعرابة؟ قال:
يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم،
وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم،
فمن فعل فعلي فهو مثلي ومن جاوزني
فهوأفضل مني ومن قصر عني فأنا خير منه،
وقال رجل لعمر بن عبدالعزيز:
أشهدأنك من الفاسقين،فقال:
ليس تقبل شهادتك،
ولذلك يقال:
"ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة:
لا يعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع
إلا عند الحرب ولا الأخ إلا عند الحاجةإليه"،
ولما لهذه الصفة من الخير العظيم اتصف الله بها
وأحب من يتصف بهافقال الرسول - صلى الله عليه
وسلم - لأشج بني عبد القيس:
« إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله
الحلم والأناة »
[مسلم: (1/46) (17)].
وللحديث بقيه
******4
أثر الرفق والحلم في الدعوة:
كما ذكر سابقاً: إن الرفق هو أحد العوامل
الأساسية في انتشارالإسلام وإقبال الناس عليه
وذلك لما يتصف به من اليسر والسهولة،
وكذلك لمايتصف به رسوله - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه من صفات الرفق والحلم والصبر والحكمة
وغير ذلك من الصفات الحميدة،وما قدمته من
أمثلةعلى حلم الرسول - صلى الله عليه وسلم -
أعظم دليل على ذلك.
واعلم أن الداعي إلى الله - تعالى -لا بد وأن
تتمثل فيه بعض الصفات التي تؤهله لأن يسمع
الناس منه ويقبلوا دعوته من تلك الصفات التي
تؤهله لأن يسمع الناس منه ويقبلوادعوته والتي
يجب أن يتحلى بها: الرفق والحلم، بل إن ذلك
شرطين أساسيين لا يجوز للداعي إلى الله
- تعالى -أن يتخلى عنهما؛ ذلك أن كل دعوة
لابد وأن يوجد في طريقهابعض العقبات لايمكن
للداعي أن يزيحها من طريقه إلا إذا استعمل
الرفق والحلم، وذلك كماحصل للرسول - صلى الله
عليه وسلم - يوم الحديبية فإن قريشاً صدوه عن
البيت الحرام ثم عقدوا معه صلحاً ليس في ظاهره
مصلحة للمسلمين البتة،ومع ذلك كله فقد كان -
عليه الصلاة والسلام - رفيقاً حليماً لا يسألوه
شيئاً إلاأعطاهم؛ لأنه كان ينظرإلى الأفق البعيد
إلى المصالح العظيمةالتي سيجنيهامن وراء هذا
الصلح، ويوم فتح مكة وقف - عليه الصلاةوالسلام -
وهو ممسك بعضادتي باب الكعبة وقريش تحته
فقال لهم: ما ترون أني فاعل بكم؟قالوا:
خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم:
أقول لكم كماقال يوسف لإخوته:
« لا تثريب عليكم اليوم »
اذهبوا فأنتم الطلقاء،
فماذا كانت النتيجة؟
هودخول الناس في دين الله أفواجاًً،
حتى الذين كانت لهم اليدالطولى في سبه
- صلى الله عليه وسلم - والاستهزاء به،
جاءوا إليه لعلمهم بسماحته ورحمته وعفوه فقبل
منهم وشملهم حلمه وخيره وبره، وقبل ذلك يوم أن
أخرج من مكةالمكرمة فذهب إلى الطائف لعله يجد
من ينصره فعرض نفسه على عمرو بن عبدياليل بن
كلال وإخوته فاستهزءوابه ولم يكتفوا بذلك بل
أغرواصبيانهم أن يرموه بالحجارة، فكان لا يرفع
رجلاًولايضع الأخرى إلا وقع فيه حجرحتى أدموا قدميه
الشريفتين، فما استكان ولا جزع ولا ضعف ولا قابل
الإساءةبالإساءة بل رفع يديه إلى السماء
ودعابقوله:
« اللهم إني أشكوإليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي،
وهواني على الناس،يا أرحم الراحمين أنت ربي
ورب المستضعفين إلى من تكلني إلى بعيديتجهمني
أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي
فلا أبالي إلا أن عافيتك أوسع لي ».
وهنا جاء النصر ونزل الفرج:
[.. فَإِنَّ مَعَ العُسْرِيُسْرًا(5) إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا(6)]
الشرح. نزل جبريل ومعه ملك الجبال - عليهما
السلام - فقال جبريل: يا محمد! إن الله قد سمع قول
قومك وما ردوا به عليك وهذا ملك الجبال فمره
بما شئت، فرد ملك الجبال - عليه السلام - وقال:
يا محمد! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت،
فقال - عليه الصلاة والسلام -: بل أرجو أن يخرج
الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً،
فرفق بهم - عليه الصلاة والسلام - بعد أن عذبوه
واستهزءوا به وأخرجوه من بيته وبلده ظلماً
وعدواناً، فجنى - عليه الصلاةوالسلام - ثمار هذا
الرفق والحلم يوم فتح مكة وقبل أن يموت حيث
دانت الجزيرة كلها بالإسلام،ولو ذهبنا نستعرض
حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعوية وما
ضرب للناس فيهامن أمثلة رائعةلاحتاج إلى ذلك
مناإلى مجلدات ضخمة، ولكن ما سقناه فيه
الكفايةوالعظةوالعبرة لمن أراد أن ينهج نهجه -
عليه الصلاة والسلام - في الدعوة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
*******